بقلم: ابراهيم داهي |
تزداد تعقيدات المشهد السياسي الإسباني وحرارة النقاش الداخلي الحاد الذي لم يتوقف منذ النتائج غير الحاسمة التي أسفرت عنها الانتخابات العامة في أواخر السنة الماضية ،حيث لم تتمكن الطبقة السياسية من عقد تحالفات كافية لتشكيل حكومة وطنية’، وهو ما أدى الى اعادة ثانية للانتخابات العامة أتت هي الاخرى بنتائج لا تختلف كثيرا عن سابقتها، من حيث عدم منح أي تشكيل حزبي التفويض الكافي لتشكيل الحكومة، مما يرجح مرة اخرى احتدام الاستقطاب السياسي وترجيح كفة الحسابات تحت الطاولة الحاسمة.
لقد كانت النتائج المسجلة في الانتخابات الاسبانية الاسبوع الماضي في مجملها منطقية الى حد ما بالنظر الى عوامل رئيسية تتعلق بطبيعة أداء الاحزاب السياسية بعد الانتخابات العامة الاولى خلال شهر ديسمبر من السنة الماضية، بعد أن لم يتمكن الزعماء السياسيون من حسم خلافاتهم في المعسكرين اليميني واليساري لأخذ زمام مبادرة تشكيل حكومة توافقية، هذه الخلافات التي لمسها الناخبون بجلاء كان لها وقع كبير في تحديد خيارات هؤلاء اثناء الاعادة الثانية للانتخابات، الشيء الذي انعكس في تسجيل عزوف ولو بنسبة قليلة حددها المراقبون في اكثر من مليون ناخب بقليل، وايضا معاقبة قوى التغيير بأدائها الباهت والمتقوقع داخل دوامة المصلحة الحزبية الضيقة، في مقابل تعزيز مكاسب الحزب اليميني الانتخابية وفرصه في ريادة تشكيل حكومة جديدة.
إن ما شدني كثيرا الى أداء الاحزاب السياسية الاسبانية كمواطن صحراوي مقيم بهذا البلد ،هو بالضرورة ما يهم كل الصحراويين في استقصاء مواقف هذه الاحزاب والزعامات السياسية من القضية الوطنية بوصف اسبانيا القوة الاستعمارية السابقة للصحراء الغربية. سيعتبر قائل أن هذا القول مردود عليه، إذ المواقف الاسبانية من قضية شعبنا العادلة لا تحتاج الى تبيان ولا الى تحمل عناء البحث ،لان اسبانيا دولة ومؤسسات اصطفت منذ أمد الى جانب قوة الاحتلال الغاشمة مفضلة اللهث وراء أوراق المصالح الوهمية المؤقتة التي ما فتئ الاحتلال المغربي يلوح بها. ولعل هذا القول على جانب كبير من الصواب ويعكس حقائق لا يجب تجاهلها او تغافلها، بيد أنني هاهنا أردت استقصاء هذه المواقف لدى الحزب السياسي اليساري الصاعد(بوديموس) ، وان كانت مبدئيا داعمة لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير والاستقلال . لكننا نود هنا متابعتها ما أمكننا ذلك، ورصدها في سياق أدائه السياسي من خلال سعيه الى الظفر بمشاركة في الحكومة والسلطة مع ما يفترض ذلك من تموقعات جديدة في علاقتها بمواقف وبرامج الاخرين ممن يُحسب أنهم شركاء سياسيين منتظرين..
لقد كانت خيبة الشعب الصحراوي كبيرة في مواقف ما يسمى بالاشتراكيين الديمقراطيين من قضيتنا الوطنية، اذ اتسمت هذه المواقف بالنفاق والانتهازية منذ عهود كُونزالز الكذوب الى ثاباطيرو المنافق المتآمر، على الرغم من ان الامر ليس بغريب او مفاجئ، لأن ذاك ديدن الاشتراكيين الديمقراطيين بأوروبا الغربية عامة باعتمادهم الغموض المقصود الى حد التواطؤ في مواقفهم السياسية في هذا الباب.
تابعنا جميعا مفاوضات اليسار الاسباني بقطبيه وسعيهما الى بناء تحالفات لتشكيل حكومة موسعة أساس أهدافها الاتفاق على ورقة عمل وبرامج ضامنة للعدالة الاجتماعية وكفيلة بمحاربة مظاهر الفساد المستشرية في هذا البلد المهدد بتفاقم ظاهرة ارتفاع مؤشر الفقر، غير أن هذه المحاولات كلها باءت بالفشل الذريع بفعل عامل رئيسي مهيمن تجلى في رغبة كلا الطرفين في الاستفراد بالزعامة واحتكار ما أمكنه من وسائل السلطة، وهي حسابات لا تخلو من دلالات، لتعريتها طبيعة نواظم العلاقات في المعسكر اليساري المؤطرة الى أمد قريب بقواميس ومفاهيم ومرجعيات الحزب الاشتراكي التقليدي في اسبانيا التي وان كانت تبدو نظريا متناقضة مع أولويات وتوجهات الحزب الشعبي اليميني العتيد ،الا أن الاشتراكيين كانوا دائما مستعدين لمجاراة التيار اليميني ومغازلته والتساكن معه في اطار وسياق قواعد لعبة منظمة بدقة عالية لتبادل الادوار وتكريس الثنائية الحزبية التقليدية مما يعني ذلك من احتكار كامل للمشهد السياسي.
لعل الاداء السياسي المثير للجدل للوافد الجديد(بوديموس) الى مسرح ومعترك الصراع من اجل السلطة كان مخيبا بشكل ملحوظ بعد نتائج الانتخابات المعادة خلال الاسبوع الماضي، حيث لم ترق الى التوقعات التي كانت ترشحه للعب دور ريادي في قيادة اليسار الجديد في اسبانيا وتصحيح مفاهيمه الجوفاء التي ظلت لعقود حبيسة نمطية انتهازية يطبل لها الحزب الاشتراكي الديمقراطي كما يحلو لقياداته تسميته انفسهم، في حين يموقعهم العارفون بالسياسة الاسبانية في خانة احزاب الوسط الاشتراكية الاقرب الى اليمين.
أصيب اليساريون الجدد في اسبانيا بالصدمة جراء الانتكاسة غير المتوقعة، وتراجعهم المحسوس في مقابل تنامي شعبية التيار اليميني وغزوه المعسكرات التقليدية للحزب الاشتراكي . وبالرغم من ان هذا الاخير يعتبر الخاسر الاكبر في هذه الانتخابات بحصده اسوأ نتيجة في تاريخه الانتخابي، الا ان قياداته كعادتهم في الخديعة وبيع الاوهام ،سوقوا هذه الهزيمة النكراء على انها انتصارا كاسحا تجلى في ما يزعمون أنهم "أفلحوا" في وقف زحف اليساريين الجدد ما يكشف اعترافا صريحا ومباشرا بالتآمر المبيت الذي خطط له الحزب الاشتراكي من خلال تنظيم حملات دعائية انتقامية ممنهجة بالاشتراك مع باقي القوى اليمينية لنشر التخويف و التهويل من الخطر القادم الذي سيعم اسبانيا في حال وصول حزب اليسار بوديموس المتحالف مع اليسار الموحد الى السلطة، وهي حملة تمكنت في اخر المطاف من تحقيق مبتغاها بكل الوسائل المتاحة وغير المتاحة.
غير أن الحقيقة التي طفت على السطح من جديد وتأكدت مرة اخرى، إن كان ذلك يحتاج الى تأكيد، هي انتهازية الحزب الاشتراكي المتأصلة في النفاق السياسي الى حد الحقد والعدوانية ضد أولئك المفروض ان يكونوا رفقاء التغيير المنشود، وكأن الصورة تتوضح من جديد حتى يعيد اليساريون الجدد حساباتهم ويتداركون ما كان من اخطائهم الجسيمة في تقدير نوايا واستراتيجيات "رفاقهم" القائمة على المصلحة الحزبية الضيقة، فسياساتهم الداخلية والخارجية على السواء لا تخرج عن هذا الاطار و لا تتعدى هذه المرجعية الفلسفية المؤسسة على النزعة المحافظة ما يتناقض بنيويا مع طموحات (بوديموس) وحلفائهم التواقة الى التغيير والدينامية القائمة على الشفافية والديمقراطية.
إن اخفاقات اليساريين في اسبانيا المسجلة اليوم لابد ان تكون مدعاة للتفكير واعادة التفكير والتقييم الاستراتيجي على أساس النقد الذاتي الجريء والمتجرد دون اغفال أن الاخفاقات السياسية لا يمكن ابدا أن تكون القاعدة مصدرها او اسبابها ، بقدر ما تتحمل مسؤوليتها القيادات دون غيرها لاسيما بعد ثبوت سوء تقدير للموقف واخطاء جسيمة في توهم ثقة زائدة في حقيقة مواقف ونوايا الحزب الاشتراكي عبر تقديم تنازلات كبيرة ضمتها ورقة بوديموس ذات الاربعين اجراء والتي ٌأٌسقطت منها بعض المواقف السياسية المبدئية للحزب. إن زعامات تحالف بوديموس في وضع لا تحسد عليه اليوم، اذ هي مطالبة بتقديم التفسيرات المقنعة لهذه الانتكاسة وما يترتب عن ذلك من مسؤوليات، فشعبية هذه القيادات باتت على المحك ولا مناص من المساءلة والتقييم، لان الظرفية العامة تلح في ذلك، ناهيك عن ان التيارات اليسارية التجديدية تعتمد في حركيتها اليوم ونجاحاتها على اداء الزعامات والقيادات في صنع وابداع الحلول وابتكارها. لابد من قياديين كارزماتيين لتحقيق الانتصارات والمكاسب، فبعض ما نلحظه من تراجعات لليسار في بعض مناطق العالم اليوم يرجع في احد اسبابه الى غياب هذه القيادات. ومع هذا كله تبقى بوديموس القوة السياسية الصاعدة في اسبانيا بعنفوانها جديرة بمكانتها اليوم المكتسبة في اسبانيا واوروبا مثلما انها جديرة برفع تحد المضي الى الامام لقيادة التغيير الايجابي المنشود.
سيزهو الحزب اليميني الاسباني بانتصاراته الى حين، لكن ما أن يستفيق من نشوته حتى تحاصره مشاكل اسبانيا العميقة التي لا تنتهي، المتمثلة في نسبة البطالة المرتفعة وازدياد مؤشر الفقر الاعلى اوروبيا ناهيك عن معدل قياسي للفساد والرشوة ،عندها لن يكون بمقدور اليمين ومعه الاشتراكيين الانتهازيين من خلف الستار تجاوز تداعيات ازمة متفاقمة لان سياساتهم ومعايير مرجعياتهم ببساطة تكرس الفوارق الاجتماعية وتزيد من حدتها.