بقلم المستشار د. نزار نبيل أبو منشار الحرباوي |
التخطيط هو عملية ذهنية وتفاعلية مع معطيات الواقع من أجل رسم مستقبل في ظل هذه المعطيات بعد سلسلة من الخطوات التنفيذية المقترنة بأهداف واضحة وأساليب تنفيذية تراكمية ، وبعد خضوع للتقييم والتقويم .
هذا من حيث المبدأ ، ولكن عند الحديث عن التخطيط الاستراتيجي ” Strategic Planning “فإنه يختلف عن التفكير الاستراتيجي ” Strategic Thinking ” ويمكن الرجوع في ذلك لكثير من المراجع ليس هنا مجال التعريج عليها .
التخطيط عملية شمولية إدارية لتفريغ المعطيات العلمية والإحصائية الموجودة في واقع ما ، وبرمجة خطة عملية تكاملية من أجل تغيير هذا الواقع وفق أهداف الجهة القائمة على التخطيط .
من أجل ذلك ، يجب قبل الحديث عن التخطيط الاستراتيجي أن نتحدث عمن يقوم بهذا النمط من التخطيط الذي يختلف شكلاً ونمطاً عن التخطيط بعيد المدى ، وهذا ما أوجد الحاجة إلى ميلاد أجسام تخطيطية تخصصية ، تعتمد على عقول تخصصية وكفاءات متدربة على هذا النمط من التخطيط وحسن التعامل مع التطلعات المستقبلية وقولبتها على شكل مخطط ، دون أن تتأثر بالواقع ومعطياته التفصيلية ، ودون الدخول في تفاصيل الخطط الفرعية الجزئية .
لذلك ، لجأت الدول المتقدمة للاعتماد على مؤسسات بحثية ومؤسسات دراسات تخصصية ذات كفاءة وقدرة ومصداقية لوضع الصورة العامة للقضايا المراد التفكير والتخطيط لها ، بحيث تؤمن لها مصروفاتها ومتطلبات عملها الباهظة وبكل ما يلزمها ، لتوفر للدولة المعطيات والأرقام والتفاصيل الدقيقة في داخل الدولة وخارجها ، وهي ما باتت تعرف باللغة العربية الفصحى باسم ” مؤسسات السند المعرفي ” أو ما يشار لها دلالة باسم ” تينك تانك ” .
هذه المؤسسات الريادية من خلال خبرائها وباحثيها هل التي مكنت اليابان وهي إحدى أكبر الدول المهزومة في الحرب العالمية من أن تدخل في لعبة الكبار ، ونادي الدول الثمانية الكبار ” G8 ” .
اليابان ، ومثلها كوريا ، وألمانيا ، استطاعت أن توجد لها حصصاً استراتيجية عملاقة في السوق العالمي من خلال إيجادها للشراكات الاستراتيجية ، وتنوع خطوط الإمداد والإنتاج ، وامتلاك الميزة النسبية للعديد من السلع الاستراتيجية من خلال تنوع المصادر الذي يصب في خانة المصلحة الذاتية لهذه الدول .
من المفيد هنا أن نشير إلى الصلة الوثيقة بين التخطيط الاستراتيجي وبين مفهوم الأمن القومي وتطلعات الأمم للمستقبل ، وهي تفريغ للطموحات العليا ، ومن خلالها يتم بسط النفوذ ومد الأشرعة وتخطيط الفعاليات التواصلية مع الذات ومع الآخر .
فالأمم التي تعتمد التخطيط الاستراتيجي هي الأمم التي لها مصالحها الاستراتيجية، وأسواقها الاستراتيجية ، وسلعها الاستراتيجية التي تريد حمايتها ونشرها عالمياً أو إقليمياً، ولها تطلعاتها ، ولها رؤية لذاتها ورغبة في الحفاظ على قرارها السيادي المستقل .
الثابت في المعادلة هنا : لا يتحقق القرار السياسي الرشيد والمؤثر إلا من خلال فهم تفصيلي وموضوعي لعناصر البيئات الداخلية والخارجية ، وشكل النظام السياسي ومهدداته، وفرصه ومقدراته، ومنطلقات القوة فيه وجوانب الضعف ، وطبيعة المصالح العالمية وتوجهاتها ونحو ذلك من أمور .
فالتخطيط الاستراتيجي ، هو وضعٌ يعني ضرورة بلورة أهداف وسياسات تسعى لعلاج نقاط الضعف في البيئة المحلية والخارجية لتصبح قابلة لتحقيق الهدف الاستراتيجي العام ، ومثاله : برمجة سياسات وأهداف لتغيير أنماط سلوكية عند المواطنين لتحسين جودة الأداء المتعلق بموارد الدولة أو مسليكاتها ، كالقضاء على الأمية ، ووجود النخب الاستراتيجية المؤثرة ، والقضاء على الكسل ، وتغيير الرغبة في الكسب السريع عند التجار ونحوها .
سمة فارقة جديرة بالاهتمام هنا ، أن التخطيط الاستراتيجي يأتي من أعلى رأس الهرم وليس من أي دائرة أو قسم أو قطاع فرعي ، فإذا كنا نتحدث عن تخطيط استراتيجي على مستوى الدولة ، فالتخطيط لا بد ان ينبع من مجلس الوزراء أو من الهيئة الملكية مثلاً، وإذا تحدثنا عن مؤسسة أو منشأة أهلية ، فالتخطيط الاستراتيجي يأتي من هيئتها الإدارية العليا ، فبغير السلطة والدعم والرعاية العليا سيفشل التخطيط وسيتم إحباط كل جهد .