الاثنين، 27 مايو 2013

عمالقة الشاي


 
بقلم: محفوظة محمد رحال
الـفت منذ صبـاها صوت أواني الشـاي كل صباح ومساء، الكـؤوس الزجاجـية الصغيرة والإبريق وأوعية السكر والشاي، أقترن هذا في خيالها بالسعـادة، التي تبدو على وجه أمها، وهي تبعثها إلى جاراتها وصديقاتها للمجــئ والتمتع بجلسة أنس ومرح، لم تنس ضحكاتهن، أصواتهن المرحة.... كم تمنت لو تكــبر وتجــلس بينهن..
أما والـدها فيتصدر مجـلس أصدقائه، وهو يعد الشـاي، مع أنها لم تـكن لتفـهم ما يقولون إلا أنها تذكر تعابير ووجوههم التي تميل إلى الجـدية والرصانة أحيانا وأحيانا أخرى ينعكس الفرح على الوجوه فتبدو مبتهجة سعيـدة، وتسمع القهقهات المرحة التي تمـلا الأجـواء الصامـتة فرحا.

مضت سنوات الطفولة بكل براءتـها، وبساطـتها كالـبرق الخاطـف، أتت مرحلة المراهقة، وباتت محور اهتمام أمـها التي قــررت ـ وبكل تصميم وإصرارـ إعدادها لحياتها المستقبلية ولهذه الغاية توالت التعليمات........لم تعودي صغيرة ، انك ابنة خيمة كبيرة ، فإذا جاء الضيف يجب أن تقومـي بمراسيم الضيافة التقليدية المعروفة لدينا كمجتمع وعلى رأسها إعـداد الشـاي، تلك الجلسة ذات الإقاع الذي يضبطه ـ القيام ـ حيث يشعر الكل بالراحة والسعادة …يجب ألايكون سريعا لأن ذلك يعني أنك ضمنيا تريدين أن يغادروا منزلك....

حدث لها انقطاع عن هذا الجـو العائلي، بعد أن سافرت بعيدا لغـرض الدراسة أختبرت العــيش في عـوالم أخـرى، وايقـاع الحـياة الذي لا يــترك مجـالا إلا للضروري والمهم، حيث لامجال للـــوقت الضائع، ولا للكلمـــــــات الضــــــــــــائعة…………هذه السنوات مرت ايضا كالبرق الخاطــــف…

وعادت بعدها إلى عائلتها لتمارس حياتها العائلية، أواني الشاي لازالت في مكانها السرمدي، وأوقاته تنتزع رغم كل شئ ، لا زال ذلك الفرح الذي تبثه جلسات الشاي في نفس أمها موجودا ، رغم السنين التي أثقلت كاهلها، وأمراض الشيخوخة التي أتها ، إلا أن ذلك الوميض الخاطف الذي يبدو في عينيها لا زال هو نفسه منذ أن رأته في سنوات الطفولة، ومن أجل هذا دأبت على إعداد الشاي لعل حكايا جلساته، تنفض عنها غبار السنين ولو مؤقتا ، وتنسيها وحشة العمر المنقضي مع إشراقة كل شمس.

ضاقت ذرعا بجلسات الشاي الطويلة، التي تلزمها بالجلوس طويلا خلف الأواني، وهي التي اعتادت الحركة والنشاط الدائــــم ، وضاقت أكثر بنظرات الناس التي لا تفتهم أبسط حركة تقوم بها، إن الأمر إختلف عما ألفته في طفولتــها، الآن أصبح الشاي وظيفة نسوية بامتياز، فلم يعد بإمكانها تميز طعمه، من كثرة ما أضطرت الى صنعه يوميا، ولم تعد أحاديثه المتكررة تلفت انتباهها فجلسة الشاي تتحول الى جلسة لتلميع الذات، والفخر بأشباه لإنجازات .

في غالبية الأوقات تأتي فاطمة وأمها، وأحمد إبن الجيران، وآخرون، حسب الوقت والظروف، خلال إحدى الجلسات، قال أحمد الشاب الفار من التدريب العسكري، أنه تشاجر مع قائد الكتيبة، لأنه رفض الأعتراف بنتائج المسابقة التي فاز بها، وأصر على أن الفائز هو شاب آخر يمت إليه بصلة قرابة، كان يتكلم ويلوح بيديه في الهواء، ويبدل وضعية جلوسه من حين لآخر، تتقد نظراته غضبا ثم يتنهد، وكأنه بركان يقذف حمم الغضب خارج صدره.

أما أم فاطمة فقـد أختارت جـلسة اليـوم لتـعلـن طـلاق إبـنـتها بعـد عـام من الـزواج، ورفعت يديها، ودعت بالثبور وعظائم الأمور على تلك المرأة ، التي أغرت زوجها، وتسببت في طلاقها ، كانت والدتها تستمع، وتصدر همهمات تبين بها، تفاعلها وتعاطفها مع الحاضرين .

اثناء كوؤس الشاي المتعاقبة، تحدث عمار الشاب الخارج من السجن حديثا، بعد أن أمضى عقوبة إثر إتهامه بالسرقة، قائلا أنه شاب نزيه، ولكن ورطه زملاؤه في مشكلة، لم يكن شريكا فيها، والقاضي الذي حكم عليه كان يريد أن يجعل منه عبرة لمن يعتبر ، دون ان ينتبه الى وجود برئ بين المتهمـــــين .

وتحدث كمال عن خيبته المريرة، إثر إقالته من عمله في المدرسة التي كان يشتغل فيها ، بعد ان رسب في أحد الأمتحانات التأهيليه، والتي لم تراع خبرته على مر السنين ، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تمت إحالته الى تدريس مستوى أدنى ، وفي مكــــان بعـــيد عن مكان سكــــنه..........

كانت تستمــــع لهم، وهي تفكــــر بهذه الجلســة التــــي كانت أشبه بالتداعـــي الحــر، في عيادة الطبيب الــنفســـي، فمع مــذاق الشـــــاي يتبادل الكل النظرات بحثا عن اذان صاغية، وعقل متفهـم، فيـــتكلم البعــــض عن أحزانهم، ويتجاوزوا خيباتهم المريرة، وينسـوا عثراتــهم، وتزدهر أحلامهم في غـد أفضل.

بدأت في صــــب المـــاء، على أوانـــي الشاي، إذانا بإنتـــهائه، بدأ الكـــل يتأهب للخروج وتكررت عبارة يكثر خيـــركم أكثر من مرة ، هكذا كانت نهاية ، جـلسة شـــــاي تحــــول فيــــها أشخـــاص قزمتــهم مشاكــــل الحيـــاة إلى عـمــــالقة ولو لوقـــت يســــــــير.