الأحد، 10 أغسطس 2014

على هامش المحاضرات التي ألقيت في الجامعة الصيفية(I)


تعميما للفائدة ارتأينا أن نكتب \ نلخص مقالات عن المحاضرات المهمة التي تم إلقاؤها في الجامعة. نبدأ بالمحاضرة الأولى المهمة التي تناولت موضوع المقاومة السلمية.
المقال:
المقاومة السلمية في المناطق المحتلة

" إذا كانت مختلف الفلسفات القانونية تكرس حق الشعب في أن ينتفض ضد حكومته، فالمنطق يقود، من باب أول، إلى الاعتراف بحقه في الثورة على قوة تحتل أرضه".
تصريح أدلى به وزير الخارجية الأمريكي في جانفي 1932م مساندا فيه جهود المقاومة

تميزت المقاومة السلمية في الصحراء الغربية بمرحلتين: المرحلة الأولى هي التصدي للتصفية العرقية للشعب الصحراوي معنويا وماديا( جسديا)، والمرحلة الثانية هي مرحلة النزول إلى الشارع والدخول في صدام يومي على شكل انتفاضة مع المحتل المغربي. 
إن انتصار الشعب الصحراوي على التصفية العرقية بكل أشكالها، خاصة في المدن المحتلة، وفرضه لوجوده، كقوة حاضرة في الميدان، أعطاه دفعا جديدا كي يواصل المسيرة. إن تحمل آلاف الصحراويين من مخطوفين، معتقلين وسجناء رأي للإبادة في السجون المغربية البشعة، وانتصارهم على التفتيت، وفوات المدة الزمنية التي كان المحتل يظن انه سيقضي عليهم فيها، أعاد الثقة لهم في أنفسهم كي يعلنوا الكفاح ويبتكرون أسلوبا جديدا للصدام. لقد خرج الصحراويون بعد تحمل صدمة الإبادة أكثر ثقة في النفس، أكثر طموحا في الصمود، أكثر إصرار على التحدي من ذي قبل. أحسوا أن الصعب والمخيف والمرعب قد مضى، وأنه حان وقت ردة الفعل وتوجيه الضربة للخصم. نظموا صفوفهم، مسحوا جراحهم وخرجوا إلى الشارع في انتفاضة استراتيجية طويلة الأمد.

إن الانتفاضة السلمية، خاصة المظاهرات والانتفاضات وكفاح الشوارع، ليست أسلوبا جديدا في الكفاح الصحراوي المعاصر. فأول عمل نضالي سلمي انتفاضي يدخل في هذا السياق كان حدث في الزملة ( 17 يونيو 1970)، ضد أسبانيا، لكن هذه الأخيرة حولته إلى مجزرة. فبدل أن يتم الحوار بالطرق المتعارف عليها، ومثلما خطط لذلك الصحراويون، لجأ الاستعمار إلى العنف والنار فسقط الجرحى والشهداء. كانت تلك الانتفاضة المقموعة هي الشرارة الأولى التي أعادت للصحراويين الوعي بضرورة تحرير أرضهم. ولم تكن تلك الانتفاضة السلمية عملا مبتورا ووحيدا، إنما كانت بداية لنضال طويل مسلح وسلمي. فحتى حين اندلع الكفاح المسلح في سنة 1973م، لم تتوقف المظاهرات في المدن الصحراوية. كان هناك صدام شبه يومي بين الاستعمار الأسباني والصحراويين انتهى بالمظاهرات الكبيرة التي تم بها استقبال البعثة الأممية التي زارت الصحراء في مايو 1975م والتي كانت عاملا مهما في جعل أسبانيا يخيب أملها في الصحراء . بعد غزو واحتلال الصحراء الغربية، ورغم القتال الشرس الذي خاضه الصحراويون، إلا أن الذين بقوا منهم في المدن المحتلة لم يتوقفوا، رغم القمع، عن المقاومة السلمية. ورغم صعوبة الانتفاضات والمظاهرات مع احتلال مثل المغرب، إلا إن الصحراويين خاضوا ملاحم لا تُنسى.
سنة 1992م، سنة بعد وقف إطلاق النار، تصاعد الكفاح السلمي الصحراوي في المدن المحتلة أكثر، وأصبح الشارع هو الخندق الجديد الذي يكافح منه الصحراويون بعد أن برد خندق جبهات الكفاح المسلح. ورغم أن الصحراويين كانوا دائما، قبل هذا التاريخ، يخوضون كفاح شوارع سلمي إلا إن سبب تصعيدهم بعد سنة 1992م راجع عدة أسباب: 
1- الأول: كان الأفق السلمي للحل، خاصة جمود مسلسل السلام الأممي، يبدو ضبابيا، وبدأت هناك بعض الشكوك حول قدرة الأمم المتحدة على تنظيم الاستفتاء؛ 
2- الثاني: من أجل الدفاع عن النفس أمام انتهاك حقوق الإنسان وانتهاك القانون المدني من طرف القوة المحتلة، المغرب. فحين لم يتكلم العالم بما فيه الكفاية عن ما حدث\ يحدث للصحراويين من انتهاك لحقوق الإنسان في الصحراء المحتلة، تم انتهاج أسلوب العناد السلمي حتى يتم فرض على العالم الاعتراف بالجرائم التي يرتكب المغرب ضد المدنيين العزل؛ 
3- الثالث: ببساطة إن القانون الدولي يُشرع المقاومة السلمية

المقاومة السلمية في الشوارع 
ينص القانون الدولي، الاتفاقيات الدولية، إعلانات حقوق الإنسان والمعاهدات كلها على شرعية المقاومة والكفاح بكل الوسائل لنيل الحرية والاستقلال، بما في ذلك الكفاح المسلح. فمثلا قرارات الأمم المتحدة مثل قراره (2649/د-25) والمؤرخ في 30 تشرين الثاني 1970م وقرار 37/43 الصادر في عام 1982م والقرار المتعلق بالعهد الدّولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدّولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 والنافذ في عام 1976م، فإنها كلها تنص على أن المقاومة حق مشروع للشعوب التي لازالت تحت نير الاستعمار.
إن المقاومة، بكل أنواعها حتى المسلحة العنيفة منها، هي مشروعة ومعترف بها متى كانت من أجل الدفاع عن الوطن وطرد الاحتلال والاستعمار. فحق تقرير المصير، حتى يتجسد واقعا ملموسا محسوسا، لا بد له من المقاومة. إن المقاومة وتقرير المصير هما مترادفان، متلازمان يسيران جنبا لجنب، وإذا تخلف أحدهما عن الآخر لن تحصل النتيجة المرجوة. إنه من الصعب، أو نادر جدا، إن يحصل شعب على حقه في تقرير المصير إذا ظل ينادي به نظريا في المحافل الدولية، وكنتيجة لذلك لا بد من مسايرة المقاومة للمطالبة السياسية.

رغم كل وسائل التصفية الجسدية والنفسية، كل الجرائم المرتكبة وكل وسائل إرهاب الدولة التي قام بها المغرب للقضاء على الشعب الصحراوي إلا ان ذلك في الأخير لم يفلح. فمنذ السنوات الأولى للاحتلال تكتل الصحراويون، رغم قلتهم البشرية، للتحدي لمخطط تصفيتهم الممنهج الرهيب، وحين نجحوا في ذلك، بعد دفع الكثير من الشهداء، المفقودين والمختطفين، بدؤوا يتحدون ويخرجون إلى الشارع للمطالبة بتقرير مصيرهم. 
إن مطالبة الصحراويين، خاصة في المدن المحتلة، بتقرير المصير، وانتهاجهم للمقاومة السلمية كان بهدف خلق نوع من التناغم بين المدن المحتلة والمناطق المحررة. إن ذلك الفعل( الانتفاضات، المظاهرات) نجح في خلق التناغم المرجو بين نضال الصحراويين الموجودين في تماس مع الاحتلال، والصحراويين الحاملين للبندقية في الأراضي المحررة في السبعينات والثمانينات. كان كل فريق يعاضد الأخر ويؤازره لتقاسم أدوار تحرير الوطن المحتل. ففي المناطق المحتلة، كانت قلوب الصحراويين هناك تنبض فرحا وهي تتابع كل ليلة المذياع باثا اللحن المميز للنشيد الوطني الصحراوي معلنا عن انتصارات عسكرية واعترافات جديدة بالدولة الصحراوية. كان عزف ذلك النشيد في الإذاعة الوطنية معادلا معنويا لحدوث معارك وانتصارات صحراوية في المناطق المحررة. كل الصحراويين، خاصة في المناطق المحتلة وفي الشتات، كانوا يخلون إلى مكان آمن يحركون المؤشر ويضعون المذياع ملاصقا لآذانهم يستمعون إلى أخر الأخبار وأخر الانتصارات وهم في حالة عظيمة من الانتشاء. أيضا كان صحراويو اللجوء والشتات يحسون بالحزن العظيم وبالغضب حين يسمعون أن المغرب نكَّل بمواطنيهم في المناطق المحتلة أو قادهم إلى السجون أو ارتكب في حقهم جرائم ضد الإنسانية. الجميع كان في خندق واحد. كانوا رغم الجدار الفاصل السيئ السمعة، ورغم التباعد والبعد، يتواصلون بقلوبهم ووجدانهم، وكان القاطنون مع الاحتلال يشعرون بالحزن أحيانا لإنهم لا يشاركون في معركة التحرير العسكرية التي يلعلع رصاصها كل يوم، وتُكتب انتصاراتها في سجل التاريخ بدماء الشهداء.

بعد سنة 1991م، سنة وقف إطلاق النار في الصحراء الغربية، أصبح الثقل على عاتق الصحراويين في المدن المحتلة. أي أن هؤلاء، حين لم يعودوا يستمعون للنشيد الوطني يعلن انتصارات عسكرية حاسمة، قرروا أن تتحول أراضي المناطق المحتلة إلى ساحات معارك سلمية تطالب بتقرير المصير. حلت الانتفاضات السلمية محل المعارك العسكرية، وأصبح النشيد الوطني الصحراوي يُعزف لها في الإذاعة بعد أن كان يُعزف للملاحم في الميدان. أصبحت هذه الانتفاضات ترفع معنويات الصحراويين في الأراضي المحررة ومخيمات اللاجئين. فالصحراويون الذين يسكنون في خارج المناطق المحتلة أصبحت أخبار الانتفاضات تملأهم بالفخر والنشوة، وتعيد لهم الأمل الذي كاد يتيه في صحراء وطلاسم السلام الخائب. انقلبت الصورة: فمثلما كان صحراويو المناطق المحتلة يتمنون لو شاركوا في المعارك العسكرية حين كانت الحرب دائرة، أصبح الآن صحرايو المخيمات والشتات يتمنون، حين يسمعون النشيد الوطني في الإذاعة أو حين يعلمون بانتفاضة بطولية، يتمنون لو كانوا في المناطق المحتلة كي يشاركوا في الانتفاضات.
النتيجة انه رغم كل محاولات التصفية والإرهاب، الحصار لم تسكت الانتفاضة السلمية في المناطق المحتلة المحاصرة. كانت دائما حية، متجددة، ملتهبة، متنوعة، وكان أبطالها يشحنونها دائما بما تحتاج لتبقى متوهجة مشتعلة لا تخبوء إلا لتنبعث من جديد.
ومع أن المدن الصحراوية كانت تعج بالمستوطنين ورجال الأمن الرسميين والمدسوسين، إلا إن الحراك السياسي الصحراوي الرافض لفرض الأمر الواقع كان دائما حيا في الوجدان الصحراوي المكبوت، وحاضر على الأرض يزعج الاحتلال ويستنزف طاقاته ويخل بأمنه. كان الجزء المحتل من الوطن الصحراوي جبهة حقيقية مفتوحة تقاوم وفق استراتيجية مدروسة وتكتيك متقن. فالصحراويون هناك كانوا دائما في الموعد، وفي الميدان يقارعون الاحتلال ويشاركون في رسم لوحة المقاومة والتحرير بكل ما يستطيعون. كانوا يخلدون الذكريات والأعياد الوطنية، ويتجاوبون مع كل انتصار يعزف لحنه في الأراضي المحررة، يبادرون، يخترعون وينجحون. فكلما حلت مناسبة، خُلدت ذكرى أو حدث وطني تتحول المدن المحتلة إلى غابة من الأعلام الصحراوية واللافتات والشعارات الصارخة برحيل الغزو والمطالبة بتقرير المصير. فمنذ منتصف الثمانينات بدأ التململ الوطني الغاضب يعرف طريقه إلى الشارع الصحراوي المحتل، وبدأ مخاض الانتفاضات السلمية يقترب شيئا فشيئا حتى فرض نفسه على الاحتلال.. 
بدأت المقاومة السليمة على شكل انتفاضة مفتوحة حتى تقرير المصير. التهبت شوارع الصحراء الغربية كلها وجنوب المغرب بالانتفاضات العنيدة القوية المنظمة التي لا تأخذ نفسا ولا تهادن. أصبح الشارع الصحراوي ميدان معركة حقيقي وتفنن المقاومون السلميون في إرباك العدو المغربي ومفاجأته كل يوم بأساليب جيدة حتى أصبح يترنح. وحين نحاول أن نأتي على جرد كرونولوجي للانتفاضات والمظاهرات التي خاضها الصحراويون البواسل في المدن المحتلة سوف لن نستطيع فعل ذلك. فمند 1992م لم تتوقف الانتفاضة السلمية في الجزء المحتل من وطننا حتى تم تتويجها بملحمة كيم إزيك الاستعراضية الكبيرة التي وقف العالم مدهوشا أمام البراعة في تنفيذها. 
المراجع: كتاب لمؤلف بعنوان: المقاومة السلمية . دار الياثنا كولتورال . أسبانيا 2012م
السيد حمدي يحظيه