الخميس، 18 يوليو 2013

اللاجئون المنسيون في تندوف ـ أبناء الصحراء الغربية وفسحة الأمل

 

ـ 1 ثلاثة أيام قضيتها مع اللاجئين الصحراويين في منطقة تندوف شديدة الحرارة
بغرب الجزائر. جئت لأسمع أكثر مما أتكلم، وأتعلم أكثر من أن أحاضر وأسأل بدل التطوع بالإجابة، وأجلس معهم في الخيمة أو على أرض رملية مفروشة بزربية بسيطة. أشرب الشاي الصحراوي متعجبا من التقاليد الصارمة التي ترافق تقديم الكؤوس الثلاث، التي تستحق مقالا مطولا لما في ذلك من تفاصيل. كانت تجربة غنية استطعت فيها أن ألمس حجم المعاناة التي يعيشها هذا الشعب الأصيل منذ ثمانية وثلاثين عاما، على إثر الصراع الذي اندلع بين جبهة البوليساريو والقوات المغربية بين عامي 1975 و1991 لا أريد أن أسرد شيئا منه الآن. وأود أن أركز في هذا المقال على الجانب الإنساني للقضية وأترك المحاججة السياسية بين الطرفين جانبا. الهدف الأساسي من هذه الزيارة جلب الانتباه لمعاناة ‘أبناء الغيوم’، كما سماهم خافيير بارديم في فيلمه الذي يحمل نفس الاسم. لقد فتح عملي مع بعثة الأمم المتحدة لمراقبة الاستفتاء في الصحراء الغربية ‘مينورسو’ في ما مضى شهية متابعة هذا الملف، فرحت أنقب في الوثائق والكتب وأتابع التطورات، وأكتب البحوث العلمية وأشارك في الندوات السياسية، انطلاقا من الحقائق واستنادا إلى الشرعية الدولية التي تمثلها الأمم المتحدة، وكنت جزءا منها، بعيدا عن الانحياز لأي طرف وبعيدا عن التهريج وتبادل التهم وتدوير نظرية المؤامرة. وقد دعيت العديد من المرات للتعليق على الملف من قبل القنوات الفضائية كلما طرح الموضوع على مجلس الأمن. وقد فوجئت أثناء زيارتي لمخيمات تندوف التي تحمل نفس أسماء مدن الصحراء الغربية بأن الناس هنا يعرفونني وينادونني بالاسم، ويقتبسون بعض الجمل التي كنت أقولها تعليقا على معالجة الأمم المتحدة للملف، منذ أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها القانوني في مسألة السيادة في الصحراء الغربية في 16 تشرين الأول /أكتوبر عام 1975، مرورا بقرار وقف إطلاق النار (690) عام 1991، وبداية جهود المينورسو لتسجيل الصحراويين المؤهلين للمشاركة في الاستفتاء، ومشروع جيمس بيكر، مبعوث الأمين العام السابق إلى الصحراء الغربية، الذي أقره مجلس الأمن بالإجماع في قراره (1495) عام 2003، وصولا إلى قرار مجلس الأمن الأخير (2099) في نيسان /أبريل الماضي، الذي أثار ضجة كبرى قبل اعتماده لتضمينه فقرة تتحدث عن إضافة مهمة مراقبة حقوق الإنسان لبعثة المينورسو، إلا أن الولايات المتحدة صاحبة المشروع سحبت تلك الفقرة في اللحظة الأخيرة، بسبب الضغوط الهائلة التي تعرضت لها من قبل فرنسا والمغرب.


2 ـ الشيء اللافت للنظر أثناء زيارة المخيمات أنك تجد العديد من ناشطي حقوق الإنسان والجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية والمتطوعين الأجانب، أفرادا وجماعات خاصة من إسبانيا وفرنسا والسويد والنرويج وايطاليا، ولا تجد عربيا واحدا. تحدثت مع طبيب كوبي وممرضة إسبانية بينما تقاطعت الطرق مع العديد من الوفود الأجنبية الزائرة. العرب لا يأتون هنا. ليس لهم علاقة بالموضوع وكأن الأمر لا يعنيهم وكأن هؤلاء ليسوا عربا ولا مسلمين. فلدى العرب ما هو أهم، فهم مشغولون بتسليح المتطرفين الإسلاميين، وتمويل الحركات السلفية في مصر وتونس وأفغانستان وباكستان، وبناء أفخم القصور وأفخم المطارات وأفخم المساجد وأفخم الأبراج. ولو اختصروا ثمن صاروخ أو نصف ثمن الألعاب النارية التي تطلق ابتهاجا بافتتاح برج أو جسر أو سوق، إذن لتم حفر
مجموعة آبار ارتوازية وتحلية مياهها كي يشرب الناس ماء نظيفا أو لأقيمت عيادات حديثة تحمي الأطفال من أمراض الكلى وتسوس الأسنان مبكرا بسبب المياه المالحة. المسألة ليست سياسية ودعم الفقراء واللاجئين والمشردين مسألة إنسانية بحتة. فقد قدم العرب مساعدات مهمة في كارثة نيويورك 2001 وإعصار نيو أورلينز 2005 وكثير من الكوارث الطبيعية الأخرى. ولو قامت منظمــــات المجتمع المدني العربية بزيارات ميدانية لهذا الجزء من الوطن العربي لربما تفطرت قلوب الحضور من الحزن والقهر وترجـــم ذلك كله إلى مساعدات ومشاريع إنسانية، خاصة في ميدان الغذاء والدواء. فزيارة المستشــــفى الوحيد الذي أقيم بتبرعات أممية وأوروبية وجزائرية لا ينتــــمي لزمانـــنا ولا يجوز أن نطلق عليه اسم مستشفى. فمنظر عدد من المرضى مكدسين في غرفة واحدة يفترشون بطانية على الأرض يقطع القلب. ونعرف من الطبيب الصحراوي أن نحو نصف أطفال المخيمات يعانون من سوء التغذية وفقر الدم وتسوس الأسنان المبكر وأمراض الكلى.
وعلى ذكر أطفال الصحراويين، فقد لاحظنا وجود عدد كبير من الأطفال في مطار تندوف يستعدون للسفر، وعندما استفسرنا عن سبب وجودهم علمنا أن هناك برامج استضافة للطلبة الصحراويين في الابتدائية والإعدادية من قبــــل عائلات إسبانية وإيطالية، خلال شهور الصيف، يطلقون على البرنامــــج ‘ســــفراء السلام’. فمن جهة يخففون من معاناة الصغار في العطلة الصيفية، ومن جهة يحسنون أداءهم اللغوي منذ الطفولة بتلك اللغات الأجنبية. قال أحد المسؤولين إن عدد الأطفال المشمولين بالبرنامج، في ما مضى، كان يصل إلى عشرة آلاف، ثم انخفض إلى ثلاثة آلاف طفل بسبب صعوبة الأحوال الاقتصادية في إسبانيا خاصة. ما أروع الفكرة لو نقلها العرب لتبادل زيارات الأطفال لدولهم لتعميق انتمائهم إلى الأمة العربية، بدل تكريس القطرية التي أوصلتنا إلى الطائفية.
3 ـ المرأة الصحراوية ذات شخصية مميزة. فقد فرضت عليها ظروف الصحراء القاسية أن تكون ربة البيت وسيدة الأسرة والأساس الثابت المنوط به كل ما تحتاج إليه العائلة. فقد كان الرجال يقضون فترة في البيداء طويلة، إما لصيد أو غزو أو حرب، يعود الرجل وقد لا يعود، لذا عليها أن تكون جاهزة لكل طارئ. تجدها المتحدثة والمدافعة عن القناعة والراوية لمعاناة العائلة. تستقبل الضيوف بلا تردد وتقوم بواجبات الضيف من تقديم الشاي أو الغداء، الذي غالبا ما يحتوي لحم جمل إن توفر. هذا الدور الريادي للمرأة انعكس على واقع المرأة الصحراوية في مخيمات اللاجئين، بثيابهن الزاهية يتقدمن الصفوف، فنسبتهن في البرلمان الصغير وعدده 53 عضوا نحو 24 ‘ من دون حاجة لنظام المحاصصة. وقد أكد لنا محدثونا أن الانتخابات المحلية في مخيم بوجدور انتهت بفوز قائمة من 12 امرأة، وسقط كل الرجال المرشحين لدرجة أن أحد المسؤولين قال متهكما ‘نحن بحاجة إلى جمعية للنضال من أجل المساواة مع النساء’.

يقف الهم الوطني على رأس أولويات المرأة الصحراوية، يليه الهمان الغذائي والصحي. فمعدل عدد الأطفال للمرأة الواحدة يصل إلى 4.15 ويموت من بين كل ألف طفل نحو 57، ومعدل عمر الرجل 59 والمرأة 64، وهي من أسوا النسب في العالم. في المخيمات تكاد تجد كل امرأة تعمل ضمن إطار سياسي أو اجتماعي. وهناك جمعيات نسائية معنية بالحفاظ على التراث الصحراوي وإعادة إنتاج أدواته البسيطة.

4 ـ في لقاء مع المثقفين والكتاب والصحافيين فوجئت بالثقافة الواسعة التي تتمتع بها هذه الفئة من المجتمع الصحراوي. ليس غريبا على أبناء الصحراء أن يعبروا عن هواجسهم شعرا وأدبا وموسيقى. وقد أكدت لنا الشاعرة نانا لبات الرشيد أنها بقيت تكافح حتى تمكنت من إنجاز دار نشر لتشجيع الإبداعات المحلية. قرأت لي من شعرها الذي يعكس صورة صادقة لهواجس النفس الممزقة بين الهم العام والهم الخاص. المرأة التي تنتظر حبيبها ولا يأتي فتحول ذكرياته إلى أنشودة إنسانية. جلست مع مجموعة من الكتاب والشعراء والروائيين وتحدثنا عن الأدب والفن ودوره في نقل المعاناة الإنسانية. فاللوحة والقصيدة والرواية والقطعة الموسيقية قد تترك أثرها العميق في النفس البشرية، ما لا يستطيع السياسيون أن يفعلوا حتى ولو حاولوا. شكوا مر الشكوى عن حالة الحصار التي يعيشها المبدع الصحراوي، فلا أحد يعرف هذا الجزء من الأمة فما بالك بإنتاجه؟ تحدثنا كثيرا عن ناجي العلي ومحمود درويش وغسان كنفاني ودورهم العظيم في نشر الوعي بالقضية الفلسطينية. يعرفون الكثير عن فلسطين ولا أعتقد أن فلسطين تعرف شيئا عنهم. لغة جميلة تتدفق بلا تقطع. ‘الحسانية (اسم اللهجة) أقرب اللهجات العربية إلى الفصحى، حتى مخارج الحروف تكاد تمد جسورا مع لهجات اليمن. حملوني رزمة من المطبوعات الأدبية: من ‘وجع المحيط’ للشاعر محمود خطري، ‘الهجوم الثالث’ رواية للكاتب مصطفى الكتاب، ‘مرافئ الرمل’ و’رحلة إلى قلب مارتي’ للروائية خديجة حمدي و’إشعار بالحرية’ لسعيد البيلال.

5 ـ ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، هذا ما قاله لي أحد الكتاب. المشكلة التي يعيشها الصحروايون في تندوف بعيدا عن أرضهم متعددة الجوانب، فبالإضافة إلى شظف العيش وضيق ذات اليد قست الطبيعة عليهم فأنهكت الأجساد قبل الأوان. وقد كنت أحادث من يبدو لي أنه أكبر سنا مني لترهل في الجسم وتجعد في الوجه فأكتشف أنه يصغرني بعشرين سنة. عدا عن ذلك فإنهم يشعرون بأن الإخوة العرب لا يكلفون أنفسهم عناء التواصل معهم ومعرفة ما يعانون منه على الأقل من الناحية الإنسانية. وأما الوجه الأكثر قسوة لمأساتهم أنها تكاد تكون منسية على المستويات الرسمية العربية منها والدولية، وأن أفق حل هذه المأساة لا يبدو قريبا بسبب الظروف الدولية والإقليمية. يبدو أن الدول الكبرى غير معنية بالحل، ولأن دول الإقليم لا تريد لهذا الملف أن يغلق ظنا منهم أن الواقع المؤقت قد يتحول إلى دائم وبالتالي يتبدد خيط رفيع من الأمل ما زال يتعلق به جميع الصحراويين.

عبد الحميد صيام أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك