الثلاثاء، 6 مارس 2012

الاتحاد المغاربي.. الواقع والاتوبياء 1


قديما حين كانت روما تسيطر على نصف الكرة الأرضية فكَّر الكثير من ملوكها في توحيد منطقة شمال غرب إفريقيا التي أصبحت فيما بعد -قرون بعد ذلك- تسمى المغرب العربي أو الإسلامي. والواقع أن بعض الإمبراطوريات نجحت في أن "توحد"، ولو لحين من الزمن، المنطقة المذكورة تحت اسم موري – تان (بلد ذوي البشرة الداكنة)، لكنها سرعان ما عادت إلى تشتتها وتشظيها الإثني والعرقي والمذهبي. المهم أن حلم توحيد المنطقة ظل يركب أحلام كل من حكمها أو استعمرها حتى أصبح يشكل هاجسا بلغ حد الهوس عند البعض. كل الذين يذكرهم التاريخ، سيئين أو خيرين، أرادوا توحيد هذه المنطقة بالتي هي أحسن أو بالتي هي أسوأ.. لكن منطقة شمال غرب إفريقيا هذه ظلت تاريخيا سهلة، طيعة رخوة على كل شيء، لكن عصية على شيء واحد: أن تتوحد. . كل القوى، الحكام، الدول جربوا توحيدها، لكن فشلوا في النهاية: جرب ذلك يوغرطة، حنبعل، العثمانيون، المرابطون وحتى تأسست دولة "الموحدين" لتوحد المنطقة، لكن الفشل كان دائما للجميع بالمرصاد. .. وحتى فرنسا، كإستعمار، حاولت، بكل الوسائل خاصة بالقوة، بسط سلطتها على المنطقة المذكورة، لكنها فشلت بسبب عصيان الصحراويين ورفضهم لسلطتها.. حتى ابن خلدون حاول توحيد المنطقة في كتابه الشهير المقدمة لكنه فشل هو الآخر بسبب أنه وجد الكثير من الاختلافات بين سكانها.

******
حين اندلعت أحداث الرفض لوجود فرنسا كاستعمار في المنطقة المذكورة راود قادة الثورات مثل بن بلة، بورقيبة محمد الخامس حلم توحيد المنطقة تحت اسم المغرب العربي أو المغرب الإسلامي. كان هؤلاء القادة، مثلهم مثل شعوبهم، متحمسين كثيرا للوحدة، بل أنهم حاولوا أو حلموا ولو لفترة وجيزة بتوحيد قيادة الثورة في المنطقة. وفي فترة لاحقة أنضم لفكرة الوحدة هذه المختار ولد داداه والقذافي. في سنة 1973م، بعد اندلاع الثورة الصحراوية تحمس للفكرة أيضا الولي مصطفى وقادة البوليساريو. لكن تلك الأحلام كانت تتعرض دائما للخيبة المريرة بسبب تناطح المصالح الاستراتيجية للدول وبسبب تدخل الدول الأجنبية.

قائمة الإكراهات التقليدية التي تمنع الوَحدة:

- مناخ التخوف من الجار..
عقدة التخوف هذه سببها المملكة المغربية. إن المملكة المغربية، منذ نصف قرن تقريبا، لازالت لا تؤمن بمنطقة كبيرة شاسعة تسمى الاتحاد المغاربي. إن المملكة المغربية مقتنعة بشيء واحد وهو أنه لا يوجد اتحاد مغاربي ولا هم يحزنون، إنما يوجد مغرب أقصى كبير يصل إلى حدود السنغال. وفي أقصى الاحتمالات يوجد مغرب عربي تكون فيه المملكة المغربية هي الدولة الكبيرة جغرافياً بعد ابتلاع الصحراء الغربية وموريتانيا وجزء من الجزائر. في هذه الحالة، حسب منطق المملكة المغربية، نعم يمكن التفكير في اتحاد مغاربي. إن اقتناع المملكة المغربية المبني على التوسع والوهم ولَّد لدى جيرانها بالتماس (الصحراء الغربية والجزائر) وجيرانها البعيدين (موريتانيا) الحذر وفقدان الثقة. إن احتلال الصحراء الغربية بالقوة من طرف المملكة المغربية فرض منطقا جديدا في الجزائر وموريتانيا: المملكة المغربية يمكن أن تلجأ إلى القوة لاحتلال جزء كبير من الجزائر واحتلال موريتانيا بكاملها.
إن ذلك التخوف وفقدان جعل الصحراويين يأخذون بنادقهم للقتال، وجعل الجزائر تدفع بجيشها إلى الحدود وتجعل المنطقة التي يطالب به المغرب الأقصى (من بشار إلى أدرار) منطقة عسكرية إلى اليوم. إن غزو الصحراء الغربية لقن الجزائر وموريتانيا درسا آخر: المملكة المغربية ليست بالجار الذي توضع فيه الثقة.

- تباين التوجهات الايديولوجية
في حين أن الشعوب تحلم بمغرب موحد- عربي أو إسلامي أو اتحاد مغاربي- نجد أن السياسة الداخلية لكل بلد، والسياسة الجيو-استراتيجية (العالمية) هي التي تقول كلمتها الحاسمة دائما في النهاية. فمادام هناك تباين جلي في التوجهات والاستراتيجيات لن يتم تجسيد حلم الاتحاد المغاربي. ففي زمن معين حاول الاتحاد السوفياتي، مستغلا الصراع الفرنسي الجزائري ومستغلا التوجه الليبي الثوري، التأثير على المنطقة لجعلها شيوعية أو اشتراكية. بالتزامن مع ذلك حاولت فرنسا والولايات المتحدة مستغلتان توجه المملكة المغربية الإمبريالي جعل المنطقة منطقة رأسمالية ومنطقة اقتصاد حر تابعة للغرب مثل منطقة الخليج العربي. لكن كلتا المحاولتين لم تتوجا بالنجاح وفشلتا في النهاية. على مستوى المنطقة ذاتها يظهر الشعور بالتنافس الايدولوجي بين الجزائر والمغرب وليبيا. فالجزائر المعتزة بثورتها ترى أنه من الصعب أن يتفق بلد ثوري تقدمي مثلها مع بلد رجعي امبريالي مثل المغرب معروف بخياناته وولائه الأعمى للغرب وخاصة فرنسا عدوة الجزائر. ليبيا أيضا في زمن نزوات وشطحات القذافي كانت ترى أن دول المغرب إذا كانت ستتوحد يجب عليها أن تنتهج، كلها، نظرية القذافي الخضراء، وتجعل من الكتاب الأخضر دستورها. في خضم هذا التنافس االعقائدي الحاصل بين الدول المذكورة تبقى الدول الأخرى التي تفرض عليها الجغرافيا والتاريخ الانضمام إلى الاتحاد تتأرجح بين الانضمام إلى هذه الدولة أو تلك. ففي حين لم تستطيع أية دولة من الدول المتنافسة حسم الصراع لصالحها تمت بعض المحاولات الارتجالية (التسوفيل) لتجريب نوع من الوحدة كنوع من الضغط على الدولة الخصم.. تمت محاولات تجريب وحدة ثنائية بين بعض الدول (تونس- ليبيا، المغرب- ليبيا) وتمت حتى بعض المطالبات بالتوحد بين ليبيا والجزائر وتونس أو بين المغرب وتونس، وحتى الولي مصطفى، في محاولة منه لمنع احتلال الصحراء الغربية من طرف المغرب طلب علانية من المختار ولد داداه توحيد الصحراء الغربية مع موريتانيا سنة 1975م. لكن هذه المحاولات كلها كانت أشبه بمعاشرة متعة لا أكثر ولا اقل. كانت دائما نهايتها هي عودة كل حليمة إلى عادتها القديمة وانتهاء الحدث بتمزيق العقد.

- شماعة قضية الصحراء الغربية.. مخاوف الجزائر وموريتانيا
حتى يجد سياسيو ومثقفو المغرب العربي وسيلة يتحاشون من خلالها جَلد ذواتهم ويخففون من خلالها من الإخفاق في حلم تأسيس الاتحاد المغاربي راحوا يجمعون على أن السبب هو مشكلة الصحراء الغربية، وأنه إذا تم حلها فإن الاتحاد المذكور سيتأسس في اليوم الموالي. وحتى هؤلاء الذين ينحون هذا المنحى يخطئون حين يحاولون التعبير عن سبب الإخفاق. إن القول إن سبب فشل الاتحاد المغاربي راجع إلى مشكلة الصحراء الغربية هو قول تنقصه الدقة. إن احتلال المغرب الأقصى للصحراء الغربية هو ليس مشكلة لإن المشكلة لابد لها من أسباب تؤدي إلى تولدها، وما حدث في الصحراء الغربية سنة 1975م كان يسير في اتجاه واحد: دولة هجمت على أرض شعب صغير وانتزعتها منه بالقوة. إذن نحن نتحدث عن قضية وليس عن مشكلة. إن التعبير الصحيح، إذا تغاضينا عن الأسباب الأخرى، يجب أن يكون هكذا: إن سبب تأخر أو فشل بناء الاتحاد المغاربي راجع إلى احتلال المغرب للصحراء الغربية.. إن قضية الصحراء الغربية هي فقط جزء من فسيفساء مشاكل وإكراهات كثيرة تعيق الاتحاد.

3) المغرب العربي.. المغرب الإسلامي.. الاتحاد المغاربي؟
قبل الحديث عن المغرب الموحد المذكور الذي تحلم به الشعوب يجب الحديث عن الكثير من الأشياء. فالاختلافات على الأرض أكثر بكثير مما يمكن أن يتصوره أحد. مثل بسيط جدا جدا: حين نتحدث عن اسم الاتحاد المنتظر نجد أن الشعوب تختلف حتى على الأسم الذي يجب أن يُطلق على المولود المذكور. فتسمية "المغرب العربي" نجد أنها لا تعجب الكثير من المكونات البشرية التي تُشكل حوالي نسبة 30% من مجموع سكان الدول التي من المفترض أن تشكل الاتحاد. فالأمازيغ مثلا والبربر والسود ينفرون من أي شيء يشير إلى العرب، ويعتبرون أنفسهم مكونا أساسيا مقصيا ومهمشا. أكثر من ذلك يعتبرون منذ مدة، خاصة منذ الاعتراف لهم بالهوية، أنهم هم السكان الأصليون للمنطقة و،على الأقل، إذا تم انتزاع منهم كل شيء يجب إن لا يسرق منهم العرب اسم منطقتهم. إن الفشل في الاتفاق على إطلاق اسم "المغرب العربي" على المنطقة جعل البعض يتجه نحو التفكير في تسميته" المغرب الإسلامي". لكن مثل هذا الاسم ولَّد عقدة جديدة: الغرب، بسب عدائه التاريخي مع الإسلام، لا يريد أن يحمل الاتحاد اسما دينيا. وزاد المشكلة تعقيدا أن فرع القاعدة الذي بدأ ينشط في المنطقة سمى نفسه" القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي".
إن التخوف من رفض الغرب التعامل مع اتحادا يحمل اسما دينيا جعل السياسيين والمفكرين المغاربيين يطلقون على الاتحاد اسم " الاتحاد المغاربي" فقط ويشطبون على الأسماء التي تثير حساسيات مثل المغرب العربي والمغرب الإسلامي.

4) الدولة المحورية
بسبب أنه بديهيا لا يوجد اتحاد دول متساوي بالملمتر جغرافياً واقتصاديا يبرز ما يُسمى الدولة المحورية. الدولة المحورية في أي اتحاد هي الحكم فيه، وهي التي تمتلك الوسائل لضمان كل الاتفاقيات التي يوقع الاتحاد والمشاريع التي يقوم بها. في الاتحاد المغاربي لم يتم إلى حد الآن حسم هذا الإشكال. من هي الدولة التي يجب إن تقود الاتحاد؟. هذا مشكل منطقي وقائم لكن الشعوب البريئة لا تضعه في الحسبان ولا في الأحلام. ورغم أن الحسابات والإحصاءات ترجح كفة الجزائر إلا أن المملكة المغربية، بمساعدة فرنسا، ترفض هذا المنطق وتحلم أنه، بعد حسم قضية الصحراء لصالحها، ستكون هي الدولة المحورية في الاتحاد. وليس المغرب وحده من يفكر هذا التفكير؛ ليبيا أيضا حين كانت تحكمها نزوات القذافي كانت تحلم أيضا أن تكون هي الدولة المحورية.
5) البقرة الحلوب
من الأسباب أيضا التي تجهض الاتحاد المغاربي هو تخوف بعض الدول من التحول إلى بقرة حلوب يرضعها جيرانها بشراهة ولا يقدمون لها أي مقابل تحت شعار أنها عضو في الاتحاد. ففي الدول التي من الممكن أن تشكل الاتحاد المغربي يوجد تفاوت بيِّن في المؤهلات الاقتصادية والبشرية والجغرافية. ففي حين مثلا إن الجزائر تقدر أنها ليست في حاجة لأي شيء من جيرانها والمتحدين معها، نجد إن المغرب وموريتانيا وتونس في حاجة لكل شيء خاصة الطاقة. ليبيا أيضا بسبب غناها في الموارد الطاقوية وندرة سكانها وموقعها الجغرافي الجيد تظن أنها ليست في حاجة إلى أي شيء. إذن الدول القوية في الاتحاد، خاصة التي تتوفر على موارد طاقوية، تفكر في هاجس أن تصبح الدول الفقيرة ترضعها ولا تقدم لها مقابل. فمثلا إذا فتحت الجزائر وليبيا للمغرب وموريتانيا وتونس والصحراء الغربية أنابيب النفط ماذا سيكون المقابل؟
البعض قد يقول أن اتحاد les trois (P) ( السمك، البترول الفوسفات pétrole, Phosphate, poisson )، من الممكن أن يعوض الاتحاد السياسي، لكن في الحقيقة ( التحت التحت) يبقى التخوف قائما وتبقى الطاقة هي المحور الذي يدور حوله كل شيء. .

إن تجسيد الاتحاد المغاربي هو اوتوبيا، لكن للأسف تصطدم بالكثير من العراقيل التي تُخيبها في النهاية. إذن الذي يؤخر الاتحاد المغاربي ليس هو قضية الصحراء الغربية، وليس هو الخلاف الجزائري المغربي، لكن هناك جملة من الأسباب الأخرى- مثل التي ذكرنا- التي، إذا ظلت كما هي، سيتأخر الاتحاد كثيرا كثيرا. وليس فقط أنه قد يتأخر، بل قد يكون مصيره مثل مصير الوحدة المغربية التي أفنى الكثير من الأجيال عمره ينتظرها، لكنها لم تتم وقد لا تتم إلى يوم القيامة.

sidhamdi@yahoo.es