الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

الى أسبانيا الممقوتة... مرورا بوهران

السيد حمدي يحظيه



منذ إن دحونا أجسادنا المتعبة إلى الحافلة المتجهة نحو وهران ونحن فوق كراسي غير مريحة نهتز ونتكسر وتتهرس وتُدق عظامنا. لا ننام، أحيانا تتدلى رؤوسنا غصبا عنا جانبا ونغمض أعيننا مرغمين ثم ننهض حين ترتطم رؤوسنا بالكرسي أو بالفراغ. رحلة من 17 ساعة على نفس الكرسي دون حِراك. البعض يمكن يظن أن مثل هكذا رحلة هي للحج أو للوطن، لكن في الحقيقة هي رحلة فرضتها الظروف لبلاد الاستعمار القديم - أسبانيا- الذي قلنا له في الماضي: فيرا أسبانيا. ها نحن نعود لبلاد ذلك الاستعمار كل مرة مرغمين نسبه ونلعنه، نلهث وراء سراب الأوراق والعمل واليورو والاكتفاء. أصعب شيء يلاقيه الحر هو الارتماء في أحضان غربة يكرهها. الكره ليس تعصبا إنما هو إحساس نشعره ونعبر عنه حتى ننظف نفوسنا من الغمة التي تكلكل على صدورنا.
كلنا نحن الذين كان قدرنا الهجرة والطرد من الأوطان ومن بين الأهل، نكره ميناء وهران. في الميناء تتم تعبئتنا رغما عنا نحن وحقائبنا في السفينة الضخمة التي لا تحس بثقل من يركبها ولا يهمها أحاسيسه ولا ما يكبت. فقط حين تهم بالمغادرة تطلق صوتها الذي يشبه صوت بقرة عملاقة من كوكب آخر. الميناء يشعرنا بتفاهتنا، فهنا نترك جوازات سفرنا، وهنا يستقبلنا صاحب الطاكسي الذي يقول لنا انه " يرخس علينا بالنصف"، و يستقبلنا الرجل الذي يطلب منا ثمن قهوته المُرة والغالية الثمن غالبا. يطلب منا ثمن قهوته تلك السوداء مقابل أن يعبئ لنا الاستمارات ومقابل أن يجر لنا حقائبنا ومقابل أن يفتح لنا الباب والنوافذ.
ميناء وهران يجعلنا نشم روائح الطيور وروائح الحبوب والدقيق والماء ورائحة الحمام والنوارس ورائحة الزبد والموج ورائحة حتى القهوة المرة.
استقبلني الصديق الصالح وهو يقول لي ضاحكا حين شاهدني أنني، بسبب رثاثة حالي بعد 17 ساعة من السفر الطويل، مثل بدوي في المدينة. ويخرج من المبنى بشاري الصالح، جريح يحمل في جسمه الكثير من جراح الحرب التي خاضها برجولة نادرة. نصف معدته من "مبلوعة كواتشو"، ونصف رجله من الحديد، وفي عموده الفقري نصف كلغ من الحديد وأثار الرصاص تكتب تاريخ رجولة نادرة في مواجهة الموت. ودون أن يتركني أستريح يأخذ يدي ويذهب بي إلى مقهى قريب، ويبدأ يحدثني عن تجربته في الحرب ومع القضية. ورغم حالته الجسدية المتعبة بسبب جراحه الكثيرة وتحمله لكل المصاعب إلا أنه يعيش بمعنويات عالية ويتمتع بروح وطنية قل مثيلها. وفي دار أخرى التقيت مع الصديق حبيب لحويمد، أحد أبطال مجموعة ال66 التي سلخت عشرات السنوات في سجن في لقنيطرة. هو الآخر ذاهب إلى أسبانيا مرغما مثلي. مرغم أخاك لا بطل. وهناك سفير، وهناك زوجة شهيد تسكن في البايس باسكو. تتدفق المرأة تسب الميناء والسفر والحافلة وأسبانيا ثم لا تلبث أن تصمت. ويقف بجانبي بعض الشبان يحلمون بأضواء أسبانيا وبالسفر إليها. يحلف أحدهم بأغلظ الأيمان أنه لو وجد فيزا بالملايين لأسبانيا سيشتريها. الكثيرون يحلمون هذا الحلم، أما نحن الذين جربنا تلك الغربة المريرة وجرحتنا فنقول في داخل أنفسنا: مساكين. أنهم لا يعرفون الغرب والغربة."
ويتكفل الصالح متطوعا بقطع التذاكر وبكل الترتيبات. ويفاجئني وهو يقول لي:" حجزت لك في غرفة من درجة أولى" premiere classe"؛ غرف الأغنياء والمترفين وأصحاب الكرفتات والياقات الوردية والذين تقطر جباههم بالعطر ماء الورد. غرف السفراء والوزراء ومن ضاقت جيوبهم بالمال الحلال والحرام. ويضحك الصالح. حجز لي أنا وصديق تذكرة في غرفة من درجة أولى بمليونين سنتيم ذهابا فقط. مليونان سنتيم ذهابا فقط لا يمكن أن تقال للفقراء ضعاف القلوب. تعرفون لماذا حجز لي غرفة من درجة أولى؟ ليس لانني غني، وليس لانني أمتلك الثمن المطلوب، وليس لأنني من من ومن لكن لأنه لا توجد كراسي ولا غرف للفقراء. كل غرف الفقراء التي كنت أحجزها بسهولة في رحلاتي الماضية تم حجزها منذ زمن هذه المرة. جئنا في وقت غير مناسب: الناس يعودون من العطلة والحصول على كرسي من الكراسي ذات الثمن العادي مستحيل. إذن، كان علي أن أختار: إما أن أعود إلى المخيمات في رحلة طويلة من 17 ساعة وأعود يوم 15 م سبتمبر القادم في رحلة أخرى في الحافلة أو أبقى في وهران أسبوعين أو استلف وأكمل المليونيين واركب في الدرجة الأولى. كل الخيارات كانت انتحارا في النهاية. استلفت مرغما مبلغا أكملت به المليونين "وعيوني تحرقني". كل الخيارات تكلفتها باهضة جدا وأكثر من المليونين.
مباهج وهران
وحتى أتأسى وأنسى هزيمة المليونين قررت أن أخرج إلى بانوراما وهران. بيني ووهران علاقة قديمة حميمية. عشت فيها حوالي سنة في التسعينات. تصادقت مع وهران لفترة من الزمن لكن بقيت محتفظا بتلك الصداقة. في هذه المدينة بعض المباهج البسيطة الجميلة التي تطغى على عتمة الميناء وعلى ضربة المليونيين. لا أستطيع أن أمر على وهران دون أن أحي بعض اللحظات القديمة فيها وأشرب كأسا في مقهى من مقاهيها. بالنسبة لي أرفض إن يتم حشري في الباخرة مع الحقائب مثلما يفعل الكثيرون دون أن أزور وهران. ليس من المعقول أبداً أن أمرَّ بوهران دون أن أتمشى وحدي صامتا متأملا أنظر إلى واجهة البحر" fronte mer". في هران أحس دائما براحة من نوع خاص؛ راحة لا أحسها في برثلونة ولا في اليكانتي ولا في باريس. لا أؤمن بمرور الكرام في وهران، ولا بمرور المستعجلين ولا بمرور القلقين ولا بمرور الذين يخشون البقاء ليلة واحدة فيها. ها أنا هذه المرة أحي عادتي القديمة: أبدأ من مقهى الهواء الطلق وأشرب " الجيروا" وجو اورانج"؛ أشربهما رشفة رشفة باستمتاع وبصمت أيضا وأنا أنظر إلى جهة البحر. أتمشى على واجهة البحر، خطوة خطوة، حتى تنتهي.
قررت أن أزور الدبلوماسي السابق مجيد؛ صديق منذ التسعينات، كان سفيرا في عهد بومدين والسنوات الأولى من عهد الشاذلي ومتقاعد منذ سنوات. دققت على الباب ففتح لي أبنه بومدين الباب. صار شابا متدينا وله لحية كبيرة ويبدو أنه عائد من المسجد بعد صلاة الظهر. لم يعرفني، وسألته عن والده فذهب يخبره. وجاء مجيد، يضع نظارات القراءة مثلما كان يفعل. عرفني بصعوبة فعانقني طويلا وهو يقول: نسيتنا. من أين أنت قادم. ."
نفس البيت القديم ونفس الأثاث، وكومة جرائد le qoutidienne d´Oran التي كان يكومها هنا. وجاءت زوجته فجرية وأبنته أنسية ( مجيد معجب بهواري بومدين: اسم أبنه بومدين واسم ابنته أنيسة على اسم زوجة بومدين). يتدفق مجيد:" انتم منسيين، التلفزيون ما يهدر شيء عليكم. نساوكم." ويسألني عن القضية ثم يقطب جبينه ويقول:" ياودي البارود.. البارود.."
ويلتفت ويقول لأبنته التي عهدي بها في المتوسط على ما أذكر:" أكتبي الماستر عن الصحراء الغربية. موضوع مهم ومنسي. سيساعدنا الأستاذ."
ويسألني أين أعمل، وهل لي وظيفة؛ أقول له أنني بطَّال منذ سنوات، فيضحك ويقول لي:" سبحان الله." يكرر ابنه المتدين بومدين وراءه كلمة" سبحان الله مرات كثرة ثم يسألني: هل عندكم مساجد في الصحراء.؟ هل عندكم مذاهب أخرى غير المالكي."
وتحدثنا طويلا عن الجزائر والصحراء والمغرب العربي ونحن نشرب الشاي على الطريقة الجزائرية. مجيد يحتفظ بصور قديمة مع صحراويين دبلوماسيين على ما أعتقد في الجزائر، لكن لم أتعرف على أي منهم بسبب عدم الوضوح.
تنتهي الزيارة وأعود مرة أخرى إلى شوارع وهران التي أعرف بعضها. أذهب إلى المكتبة أبحث عن رواية " نجمة" لكاتب ياسين، لكن لا أعثر عليها. بحثت عنها بالفرنسية، اللغة التي كُتبت بها، لكن كانوا يقولون لي في كل مرة أنه ربما أجدها في سوق الكتب القديمة.
ينتهي برنامج زيارة وهران، أبدأ أفكر من جديد في المبلغ الذي استلفت وأكملت به تذكرة الدرجة الأولى ذهابا فقط والتي دفعت فيها مليونيين سنتيم.