السبت، 11 يناير 2014

جبهة النصرة عندما تتحول إلى وسيط

                 عبد الباري عطوان                     


عندما تتحول"جبهة النصرة" التي اعلنت ولاءها لتنظيم "القاعدة" وانحاز اليها الدكتور ايمن الظواهري رئيس التنظيم، اثناء 
خلافها مع "داعش" واعتبرها فرعا للقاعدة في سورية الى وسيط لانهاء الحرب الدموية التي تشنها جماعات اسلامية (معتدلة) لاجتثاث الدولة الاسلامية في العراق والشام، وانهاء وجودها على الارض السورية، فان هذا اكثر التطورات لفتا للانظار في الازمة السورية علاوة على كونه الاكثر اهمية في الوقت نفسه.
فجبهة النصرة حتى قبل بضعة اسابيع كانت تعتبر جبهة ارهابية حسب المعايير الامريكية والعربية الخليجية، الامر الذي يعكس التغييرات المفاجئة، وربما الانتهازية، التي طرأت على هذه المعايير واصحابها، والخطة "المتدحرجة" التي يتم تبنيها في الوقت الراهن في اطار التوافق المتزايد بين الدولتين العظمتين، اي امريكا وروسيا والدول الاقليمية وخاصة تركيا والمملكة العربية السعودية حول الازمة السورية وسلم الاولويات فيها.
السيد ابو محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة لخص عناصر مبادرته بتشكيل لجنة شرعية من الفصائل "المعتبرة" وبمرجع مستقل، ووقف اطلاق النار، والقضاء في الدماء والاموال المغتصبة وتبادل الاسرى والمحتجزين، ووقوف الجماعات صفا واحدا، وبالقوة، امام كل من لا يلتزم بالقرارات الصادرة عن اللجنة الشرعية، بعد اقرارهم فيها حتى تفيء الى امر الله، على حد تعبيره.
من الصعب علينا ان نعطي احكاما حازمة حول فرص هذه المبادرة من النجاح، ليس لانها ما زالت طرية العود، وانما ايضا لان السيد الجولاني قال "ان بعض الاطراف قبلت بها، فيما علق البعض الآخر موافقته عليها على موافقة الاطراف الاخرى، بينما فضل البعض الثالث المماطلة في الاجابة".
فما حذر منه السيد الجولاني، اي "الصراع الجاهلي" بين المهاجرين والانصار، قد بدأ بالفعل وازداد شراسة، فكل مقاتل غير سوري بات مصيره القتل او الطرد او الاثنين، ونسبة كبيرة من مقاتلي "داعش" هم من جنسيات غير سورية اي من المهاجرين، وربما لهذا السبب جرى استهدافها اولا بعملية التصفية الحالية الجارية التي توحدت على ارضيتها الفصائل الفاعلة على الارض السورية، وتحظى بدعم امريكي سعودي تركي مثل الجبهة الاسلامية والجيش الحر وجيش المجاهدين بالدرجة الاولى.
بمعنى آخر يمكن القول ان الدول العربية التي شجعت، ومولت، المقاتلين الاجانب، وسلحتهم وسخرت اعلامها الفضائي للاشادة بهم كمجاهدين ينصرون اخوتهم "اهل السنة والجماعة" في سورية للاطاحة بنظام مستبد تخلت عن هؤلاء، وانقلبت عليهم، وانخرطت في المخطط الرامي الى تصفيتهم.

لا نختلف مطلقا مع السيد الجولاني في اتهامه تنظيم "داعش" بارتكاب اخطاء، من بينها تنفيذ "احكام اعدام" في بعض المنتمين لفصائل اخرى من المذهب نفسه، ولكن لا بد من التنويه الى ان معظم الفصائل الاخرى، لم تكن معصومة، وارتكبت جرائم ايضا، من بينها الجيش الحر نفسه الذي يصنف على انه ليبرالي ديمقراطي وبعض المنتمين اليه على وجه الخصوص. والامثلة كثيرة، وبعضها موثق على "اليوتيوب".
لا يحتاج المرء لبذل اي جهد للوصول الى نتيجة مفادها ان هناك خطة مدروسة بعناية، ومتفق عليها بين القوى التي تعد لانعقاد مؤتمر جنيف، قمة اولوياتها تصفية جميع القوى الاسلامية المسلحة على الارض السورية، ولكن بالتقسيط غير المريح، لان هذه القوى في معظمها، حسب وجهة النظر الامريكية الروسية المشتركة لا تؤمن بالتعايش مع الآخر، وترى ان الحكم الديمقراطي القائم على صناديق الاقتراع ليس النموذج الذي تريد تطبيقه في سورية في مرحلة ما بعد سقوط نظام الرئيس بشار الاسد.
تنظيم جبهة النصرة يعتبر اليوم وسيطا مقبولا يحظى بشرعية اعتراف الفصائل الاخرى المدعومة امريكيا وسعوديا وقطريا، وصمت الولايات المتحدة الامريكية، ولكنه سيتحول الى عدو فور الانتهاء من تصفية الدولة الاسلامية ومقاتليها، تصفية تامة، ومن سيتم اعتقاله او اسره سيعدم لاحقا بتهمة الارهاب، وهذا ما يفسر الحرب الحالية على هذا التنظيم في العراق وسورية معا، وقطع خطوط امداده مع حاضنته الرئيسية في الانبار والموصل.
معظم التنظيمات الاسلامية المقاتلة على الارض السورية بما في ذلك تلك المرضي عنها عربيا وغربيا تلتقي على ارضية مشتركة بعنوانين اساسيين: الاول: اقامة دولة اسلامية تطبق الشريعة الاسلامية بكل حذافيرها، والثاني: اسقاط النظام السوري باعتباره نظاما طائفيا ارتكب جرائم في حق اهل السنة والجماعة.
مثل هذه الايديولوجية لا يمكن ان تكون مقبولة بالنسبة الى الراعيين الاساسيين لهذا المخطط اي الولايات المتحدة وروسيا، ولا للدول العربية الخليجية المتورطة في الحرب في سورية حاليا.
علينا ان نتذكر دائما "العامل الاسرائيلي" ودوره في تشكيل السياسات والمواقف الغربية في منطقة الشرق الاوسط، فالفوضى المسلحة هي الخطر الاكبر على اسرائيل وامنها واستقرارها، ووجود كتائب اسلامية مسلحة في سورية، تحت مظلة هذه الفوضى في ظل بقاء النظام او زواله، يشكل كابوسا مرعبا للغرب واسرائيل معا.
وقوف الولايات المتحدة الامريكية بقوة الى جانب النظام العراقي الطائفي في المواجهات التي يخوضها ضد الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة، ودون اخذ ضمانات منه بالتخلي عن ممارساته المذهبية الطائفية، واتباع مبدأ المشاركة ومن ثم التعايش مع اصحاب المذاهب الاخرى، هو دليل اضافي على ما نقول.
فليس من قبيل الصدفة ان تسارع واشنطن الى تزويد النظام العراقي بصفقات اسلحة حديثة متطورة من بينها صواريخ "هيل فاير" لمواجهة تنظيم "القاعدة" والمعتصمين في منطقة الانبار احتجاجا على هذه الممارسات، وهي على دراية كاملة بالدعم الايراني لهذا النظام، تماما مثلما يتلقى النظام السوري الدعم من الجهة نفسها.
ريان كروكر السفير الامريكي الاسبق في العراق والدبلوماسي المخضرم قال قبل شهر في مقابلة مع "نيويورك تايمز″ ان بقاء الرئيس الاسد في سورية هو اقل الخيارات سوءا وشدد على ضرورة "الاخذ بنظر الاعتبار مستقبلا لسورية يتضمن بقاءه" اي الاسد، لان البديل هو "دولة عربية مهمة في ايدي القاعدة وهو اسوأ من الاسد السيئ".
ما يجري حاليا على الارض السورية هو التطبيق العملي والحرفي لهذه الرؤية الامريكية، وعلينا توقع العديد من المفاجآت في الايام المقبلة.