الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

الداخلة... تلك الحسناء المقاتلة..!! ( سعيد البيلال



الداخلة (المناطق المحتلة)4 اكتوبر2011(واص)- في ذروة الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة الداخلة المحتلة من قمع وقتل وحرق ودمار انتهجته سلطات الاحتلال المغربي ضد المدنيين الصحراويين في مدينة الداخلة المحتلة، ارتأ الكاتب والمعتقل السياسي الصحراوي السابق سعيد البيلال ، كتابة مقال بعنوان " الداخلة... تلك الحسناء المقاتلة "، زاوج خلالها بين جمال المدينة وعنفوان المحتل المغربي، الذي ارتكب جرائم القتل والحرق والتدمير والقمع ... شهدها العالم اجمع

الداخلة... تلك الحسناء المقاتلة..!!

أعمدة وسحب دخان... حرائق في كل مكان... دموع ودماء على الإسفلت...!! عسكر.. سيارات... شاحنات... دبابات... أسلحة... بلاطجة... شبيحة... رصاص وشهداء...!!
ما هذا..؟؟ أنحن في غزة... أم في بغداد... أم أننا في جنوب لبنان أو السودان...!! أنكون في إدلب .. حماة ريف دمشق...؟؟ أم أننا في تعز .. أبين أو صنعاء...؟؟

الحقيقة... أننا لسنا هناك ولا هناك... والحقيقة أكثر أننا لسنا في حاجة للرحيل نحو الشرق لنعيش على إيقاع ثلاثية العرق والدموع والدماء... فالمدن الصحراوية الواقعة تحت السيطرة المغربية نقط أخرى لتَمثُل تلك الثلاثية منذ عقود ثلاثة... بالأمس كانت ملحمة "أكديم إزيك" التي حررت العرب من تكلسات الخوف وترسبات التردد وعقد الانتظارية وعبدت الطريق لرياح الحرية التي اتجهت شمالا وشرقا وعصفت بأنظمة تسلطية ولا زالت تدك حصون أخرى تقاوم دون جدوى (تعَنْتِيتْ العَرمْ)... واليوم جاء الدور على مدينة الداخلة... الجريحة والنازفة... مدينة الجمال والدلال... ومدينة الصمود والتحدي كذلك... التي تعيش هذه الأيام على وقع صفيح ساخن لا يبقي ولا يذر...انتقاما من صمودها واستماتتها... فقدر كل فتاة جميلة دائما هو التنكيل ضدا على ممانعتها ورفضها الخضوع واسترخاص شرفها وعذريتها...

الداخلة... المدينة الإفريقية الهاربة من القارة نحو البحر... المنزوية بهمومها وجراحها في أحد زواياه... الممتطية بشموخ صهوة الساحل... الغارقة في ملكوت الجمال والسحر... صاحبة الموقع الجغرافي الذي يأسر الخاطر... مدينة كأنها شبه جزيرة لا تربطها بالبراري سوى شعرة معاوية... جورب تمدد بأريحية على ظهر المحيط... أو رباطة عنق تدلت بأناقة من جغرافية الوطن المحتل على امتداد الساحل...أو ممر ترابي يمخر عباب البحر...بل هي قلادة ذهبية وشحت جيد الشاطئ... إن لم تكن جسر أسطوري يأخذك من البر إلى البحر... بمعنى ينقلك من الواقع نحو الخيال... من هذه الحياة القاحلة نحو الفردوس الآخر..!! هي نفسها المدينة الرافضة دوما الانحناء... الحسناء المقاتلة... العذراء العصية على "زواج الإكراه" من غريب... فما بالك بالقبول ب "هتك العرض" على يد بربري متوحش.. هي نفسها المدينة التي قهرت دولتين " المجموعة الموريتانية والمملكة المغربية"...ومرغت في وحل الهزيمة أنف نظامين..." الداداهي والحسني"... الحاضرة التي ابتليت بالإحتلالين وغدر الجارين... وطعنت من الجنوب ومن الشمال مرتين... لا لشئ سوى أنها فاتنة...رائعة ... وممتلئة... نعم فجمالها كان دائما سبب بلائها... وبطنها العامر كانا دائما مصدر نعمتها ونقمتها على حد سواء... فكونها عروس البحر... فاتنة الوطن... وعذراء إفريقيا...الغنية بثرواتها وموقعها الآخاذ.. فهي على الدوام محل أطماع الغرباء وقطاع الطرق واللصوص والصعاليك وكل زير...

فالداخلة مدينة لا تنتمي لهذا العالم ولا لليابسة...هي... بنت الخيال... بنت الأسطورة... بنت البحر ... وبنت الشاطئ... حورية خلقت من ماء وطين...وحين كبرت زفت للمحيط كعروس بتول... وعادت للماء كأي سمكة سلمون... فإن كان قدر كل إنسان هو العودة للتراب...فقدر بعض المدن هو العودة للمياه... وذاك قدر الداخلة... " المدينة المائية العائمة"...!!

ولأن الوحوش لا تأبه بالجمال... والذئاب لا تقدر الفراشات... والفيلة لا تتجنب الزهور... فقد كانت الداخلة الساحرة منذ أيام عرضة للاغتصاب والقتل والتنكيل والدهس وكل ضروب المعاملة القاسية على يد الاحتلال المغربي الغاشم... فكونها مدينة تنتمي لجغرافية الوطن المحتل... وكونها ممانعة وأبية وعصية على الرضوخ لمشيئة الاحتلال... فذاك كفيل بأن تتعرض للدوس وامتهان الكرامة... فلا جمال يشفع...ولا حسن ينفع... ولا شكل يقنع... مع استعمار لا يهمه سوى العمق والمضمون...استنزاف الأرض واستباحة العرض...

الداخلة جريحة الآن... مثلها مثل تعز اليمنية وحماة السورية وغيرها من المدن العربية التي تحصي هذه الأيام شهدائها وجرحاها ومعتقليها... ومثلها بالأمس كان مخيم "أكديم إزيك" الصحراوي و "ميدان التحرير" المصري وسيدي بوزيد التونسية وبنغازي الليبية... وذاك قدر كل مدينة تأبى الاستبداد أو الاحتلال... وقدر كل شعب يلفظ التلكؤ والاتكالية وينبري إلى انتزاع حقوقه بأسنانه...

الداخلة الحبيبة... تذبح اليوم بدم بارد... تسلخ على مرأى الجميع... تطعن بسكاكين نظام الاحتلال مباشرة وبواسطة " شبيحته" و " بلاطجته" أو بالأحرى " شماكريته"... فلكل نظام استبدادي " ماركته المسجلة" وأزلامه متعددي الأسماء والاستعمالات... ولأنها مدينة ركعت كل غازي حاول المس بشرفها الغالي... ولأن هذا الاحتلال أدرك منذ البدء حجم صمودها ومقدار مقاومتها وحرصها على بكارتها... فقد زرع بخبث " بؤرة سرطانية" استيطانية في جسدها، وسماها " حي الوكالة" الذي كان دائما " وكيله المعتمد " الذي كلفه بدور قذر يتجلى في " الحرب بالوكالة " ضد انتفاضة الجماهير الصحراوية بالداخلة المحتلة، هذا الورم الذي انتشر وتوسع واستقوى أكثر شكل عنصر تحول خطير في البنية السكانية و قلب المعطى الديموغرافي رأسا على عقب، مثلما شكل خزانا بشريا احتياطيا يوظفه هذا الاحتلال وقت الحاجة، مرة " كإطفائي للحرائق" أو "فزاعة للتخويف" أو " ميليشيا مسلحة جاهزة للاستعمال " ومرة أخرى " كقفاز ملاكمة" يبطش به وينكل به كل صحراوي تجرأ على التظاهر أو حتى الجهر بحق شعبه في تقرير المصير والاستقلال.

الداخلة العزيزة... ودعت بالأمس شهيدها الشاب " ميشان محمد لمين لحبيب" الذي سقط دفاعا عن شرفها وعرضها وانتفاضتها... ليلتحق بركب الشهداء الأبرار... كان يافعا في عمر الزهور لم يكمل بعد ربيعه الثامن والعشرين.. مثله مثل عريس الشهداء الولي مصطفى السييد وسيدي حيذوك وحمدي لمباركي وشباب آخرين قضوا نحبهم من أجل الوطن قبل أن يكملوا عقدهم الثالث... وكأن قدر الموت يترصدهم قبل عتبة الثلاثين...

الشاب ميشان... بطل آخر... هذه المرة سقط في الداخلة... وكأن الانتفاضة تحرص على توزيع عادل للشهادة على كل المدن الصحراوية لبلوغ شعار " لكل مدينة شهدائها "... شهيد آخر يلتحق برفيقه سعيد دمبر الذي لا زال في انتظار قبر...!! شهيد لا غبار على شرعية استشهاده رغم ما روجت له آلة الاحتلال الدعائية من أنه فقط ضحية لأعمال عنف تفجرت بعد مقابلة رياضية...!!

مثلما كانت قد إدعت أن انتفاضة فبراير الماضي بنفس المدينة كانت مجرد " أحداث عنف" تلت مهرجان ثقافي...!! لكنها تناست أن إدعاءاتها كشفت... وأن مزاعمها تبخرت... وأن العالم بأسره ما عادت تخفى عليه الحقيقة... حقيقة المقاومة المدنية التي تعيشها كافة المدن الصحراوية... وحتى مبرراتها الواهية التي ساقتها.. هي ضدها وليست لها... فدولة تقتل على خلفية الرياضة أو الثقافة كيف لها احترام المواقف السياسية المجاهرة بالحق في تقرير المصير والاستقلال...!!

دولة تزج بمستوطنيها وشماكريتها ضد الصحراويين كيف لها الادعاء باستتباب الأمن والآمان...!! دولة تحرق المدن وتدمر المساكن والمتاجر وتتلف المزارع كيف لها التبجح بالتنمية والإقلاع...!! دولة تغتال الزهور في مهدها كيف ستقبل بزحف الربيع...!! دولة تنتهك وقف إطلاق النار وتعمل على جر المنطقة المحتلة إلى أتون حرب أهلية والمنطقة ككل إلى حالة من عدم الاستقرار كيف لها طلب مقعد في مجلس الأمن لحفظ السلام في العالم...!!

إن الدروس المستفادة من ملحمة هذه " الحسناء المقاتلة" هو... أن المستوطنين أصبحوا فعلا مشكلا حقيقيا يقض مضاجع الصحراويين... وأن الانتفاضة فعل شعبي لا يموت أبدا... لا يخبو أبدا... مادامت هناك جماهير تواقة للحرية...!! وما دام هناك احتلال يجثم على الصدور...!!